فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا، وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مِنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، أَوْ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَافَقَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ نَفَذَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّقْضُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا قَطْعًا، وَإِنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا قَطْعًا.
وَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ نَفْسَ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ، فَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ؛ لَمْ يَرُدَّهُ الثَّانِي، بَلْ يُنَفِّذُهُ؛ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته؛ لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاؤُهُ مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته، فَلَوْ نَقَضَهُ إنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ.
وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلْ اجْتِهَادِيٌّ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ يَرْفَعُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الْأَوَّلُ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ، وَمَا أَدَّى إلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ.
فَإِنْ كَانَ رَدَّهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَرَفَعَهُ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ، وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ، وَقَضَاءَ الثَّانِي بِالرَّدِّ بَاطِلٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنْ كَانَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى الْمِصْرِ- الَّذِي كَانَ فِي يَدِ الْخَوَارِجِ- فَرُفِعَتْ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ قَضَايَا قَاضِيهِمْ، لَمْ يَنْفُذْ شَيْئًا مِنْهَا، بَلْ يَنْقُضُهَا كُلَّهَا- وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ- كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ؛ لِيَنْزَجِرُوا عَنْ الْبَغْيِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمْ لَا كَمَا لَوْ قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ أَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ؟ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يُنْقَضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ هُنَا لَمْ يَجُزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ.
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ ثَبَتَ بِقَوْلِ الْكُلِّ، فَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا، فَالْقَاضِي بِالْقَضَاءِ يَقْطَعُ أَحَدَ الِاخْتِلَافَيْنِ، وَيَجْعَلُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ بِالْقَضَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِهِ، وَإِذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحِلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَحِلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا، كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ هَلْ يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمَا؛ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ؛ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَخَرَجَ عَنْ مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ.
وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ؟ عِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ، وَعِنْدَهُ يُرْفَعُ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِيهِ، يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ، وَلَا يَرُدُّهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الِاجْتِهَادِ، وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، لَا يُنَفِّذُ، بَلْ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ؛ فَكَانَ بَاطِلًا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مِنْ فَصَّلَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ تَفْصِيلًا آخَرَ فَقَالَ: إنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ شَنِيعًا مُسْتَنْكَرًا جَازَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ كَوْنُهُ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُجْتَهِدٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلثَّانِي نَقْضُ قَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُحِلُّهُ الْقَضَاءُ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُحِلُّهُ الْقَضَاءُ، وَمَا لَا يُحِلُّهُ، فَالْأَصْلُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَاهِدَيْ الزُّورِ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ إنْشَائِهِ فِي الْجُمْلَةِ، يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقَضَاؤُهُ بِهِمَا فِيمَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَائِهِ أَصْلًا، لَا يُفِيدُ الْحِلَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يُفِيدُ الْحِلَّ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَنَقُولُ: جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِشَاهِدَيْنِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمَا شَاهِدَا زُورٍ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَضَى بِعَقْدٍ أَوْ بِفَسْخِ عَقْدٍ، وَإِمَّا أَنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ، فَإِنْ قَضَى بِعَقْدٍ أَوْ بِفَسْخِ عَقْدٍ فَقَضَاؤُهُ يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُفِيدُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشُهُودِ زُورٍ هَلْ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَإِنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ، لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا بِالْإِجْمَاعِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ، فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا- وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا- حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا، وَحَلَّ لَهَا التَّمْكِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا- وَهُوَ مُنْكِرٌ- فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ؛ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ دَعْوَى الْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ.
وَفِي الْهِبَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- رِوَايَتَانِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَهِيَ تُنْكِرُ وَتَقُولُ: أَنَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ أَنَا فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ، فَشَهِدَ بِالنِّكَاحِ شَاهِدَانِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّهَا كَمَا أَخْبَرَتْ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّمْكِينُ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ هَذِهِ جَارِيَتُهُ، وَهِيَ تُنْكِرُ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِالْجَارِيَةِ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِيَهَا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» أَخْبَرَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِمَا لَيْسَ لِلْمُدَّعِي قَضَاءٌ لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ، وَلَوْ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا لَمَا كَانَ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَنْفُذُ بِالْحُجَّةِ- وَهِيَ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ- وَهَذِهِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْفُذُ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْفُذْ بِالْمِلْكِ الْمُرْسَلِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، أَوْ الرَّضَاعِ أَوْ الْقَرَابَةِ، أَوْ الْمُصَاهَرَةِ، كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إنْشَاءٌ لَهُ، فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ صَرِيحًا.
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، وَلَا يَقَعُ قَضَاؤُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إلَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْإِنْشَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تَكُونُ صَادِقَةً، وَقَدْ تَكُونُ كَاذِبَةً، فَيُجْعَلُ إنْشَاءً، وَالْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ مِمَّا تَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ إنْشَائِهَا فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمِلْكِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَنْشَأَ الْقَاضِي أَوْ غَيْرُهُ صَرِيحًا- لَا يَصِحُّ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِأَسْبَابٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ صَرِيحًا لَا يَنْفُذُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إلَّا دَعْوَاهُمَا، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَالْمِيرَاثُ وَمُطْلَقُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى- وَبِهِ نَقُولُ- مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ السَّبَبِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ بِسَبَبٍ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ قَضَاءٍ لَهُ مِنْ مَالٍ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ بَلْ هُوَ قَضَا لَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَبِحَقٍّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ، أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَعْمَلْ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إمَّا أَنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصًا، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَالرَّجْمِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ، فَإِنْ كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا- وَهُوَ قَائِمٌ- رَدَّهُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلًا، وَرَدُّ عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ».
وَلِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، «وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَمِلَ لَهُ فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ؛ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا عَمِلَ لَهُ فَكَانَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَأَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَيُرَدُّ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْمَالِ الْهَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصًا فَضَمَانُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إلَيْهِمْ- وَهُوَ الزَّجْرُ- فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا قُلْنَا فَيُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ، وَلَا يُضَمَّنُ الْقَاضِي؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا الْجَلَّادُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: كُلُّ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ، وَمَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ أَشْيَاءَ- ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ- لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْخَلِيفَةُ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ أَيْضًا، وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ بَلْ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ؛ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ، كَالرَّسُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَ رَسُولًا كَانَ فِعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَوِلَايَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ بَاقِيَةٌ، فَيَبْقَى الْقَاضِي عَلَى وِلَايَتِهِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ، فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ إذَا عَزَلَ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا حَقِيقَةً، بَلْ بِعَزْلِ الْعَامَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الِاسْتِبْدَالَ دَلَالَةً؛ لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْلِ أَيْضًا، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ.
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ، ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ خَلِيفَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا نَائِبُ الْقَاضِي، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ خَلِيفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، فَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ كَالْوَكِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا وَكِيلَهُ، كَذَا هَاهُنَا، إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مَنْ شَاءَ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا عَزْلًا مِنْ الْخَلِيفَةِ لَا مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَالْوَكِيلِ إذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْعَزْلَ، وَإِذَا عَزَلَ كَانَ الْعَزْلُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَذَا هَذَا.
وَعِلْمُ الْمَعْزُولِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَزْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ، وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ؟ عِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ الْإِمَامُ وَيُعَزِّرُهُ، كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَنْعَزِلُ وَقَالُوا: صَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ، لَكِنْ رِوَايَةُ مَشَايِخِنَا: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُشْتَبِهَةٌ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ يَعْزِلُهُ وَيُعَزِّرُهُ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا: حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى الْمُحْكَمِ، فَكَانَ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى.
وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: يَنْعَزِلُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ هَلْ يَنْعَزِلُ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَنْعَزِلُ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: فَأَصْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْفِسْقَ يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَيَبْطُلُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ كَمَا هِيَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ زَالَتْ بِالْفِسْقِ فَتَبْطُلُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْعَدَالَةُ لَيْسَ بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ؛ الْأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الْقِسْمَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقِسْمَةُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا- قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ وَالثَّانِي- قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ مَشْرُوعَةٌ، أَمَّا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ فَقَدْ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
(أَمَّا) السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ»، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الشَّرْعِيَّةُ.
(وَأَمَّا) الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ النَّاسَ اسْتَعْمَلُوا الْقِسْمَةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهُ مُتَوَارَثَةً، وَالْمَعْقُولُ يَقْتَضِيهِ تَوْفِيرًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَصْلَحَتُهُ بِكَمَالِهَا.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَمَّا فِي اللُّغَةِ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ النَّصِيبِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ عَنْ بَعْضٍ، وَمُبَادَلَةِ بَعْضٍ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْأَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَتَجَزَّآنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَكَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ مَمْلُوكًا لِهَذَا، وَالنِّصْفُ مَمْلُوكًا لِذَاكَ عَلَى الشُّيُوعِ، فَإِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَالْأَجْزَاءُ الْمَمْلُوكَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَتَجْتَمِعُ بِالْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فلابد وَأَنْ يَجْتَمِعَ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْزَاءٌ، بَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَبَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهِ عَلَى الشُّيُوعِ.
فَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ، لَمْ يَكُنْ الْمَقْسُومُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلْمَقْسُومِ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُ مِلْكَ صَاحِبِهِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِطَلَبِهَا مِنْ الْقَاضِي رِضًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ نِصْفِ نَصِيبِهِ بِعِوَضٍ- وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ- وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمُبَادَلَةِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ إفْرَازًا وَتَمْيِيزًا، أَوْ تَعْيِينًا لَهَا فِي الْمِلْكِ وَفِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لِصَاحِبِهِ مُعَاوَضَةً، وَهِيَ مُبَادَلَةُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَكَانَتْ إفْرَازَ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ وَمُعَاوَضَةَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ الْمَعْقُولَةِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَكَانَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا فِي كُلِّ قِسْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ، إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى لَهَا حُكْمَ الْإِفْرَازِ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْعِوَضِ مِثْلُ الْمَتْرُوكِ مِنْ الْمُعَوَّضِ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ، حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَجُعِلَ إفْرَازًا حُكْمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْمُعَاوَضَاتُ مِمَّا لَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ؟.
(فَالْجَوَابُ) أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ قَدْ يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ- عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ- دَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَنْفِي الْمُعَاوَضَةَ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً مَعَ مَا أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَجْرِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ، كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ، بَلْ هِيَ إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُعَاوَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَجَازَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا الْجَبْرُ؛ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ مُجَازَفَةً كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُجَازَفَةً؛ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ثَلَاثُونَ مِنْهُ رَدِيئَةً وَعَشَرَةٌ مِنْهُ جَيِّدَةً قِيمَتُهَا سَوَاءٌ فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهُ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا ثَلَاثِينَ وَالْآخَرُ عَشَرَةً أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِتَمَكُّنِ الرِّبَا فِيهِ لَتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.
وَلَوْ زَادَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ ثَوْبًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ صَارَتْ مُقَابِلَةً بِالثَّوْبِ، فَزَالَ مَعْنَى الرَّبَّا وَقَالَ فِي زَرْعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُمَا فَأَرَادَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَنْبَلَ الزَّرْعُ: إنَّهُ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِصُوفٍ عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ لِرَجُلَيْنِ، أَوْ أَوْصَى بِاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَهُمَا، لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ قَبْلَ الْجَزِّ وَالْحَلْبِ؛ لِأَنَّ الصُّوفَ وَاللَّبَنَ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا يَحْتَمِلَانِ الْقِسْمَةَ مُجَازَفَةً، كَمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً، وَكَذَا خِيَارُ الْعَيْبِ يَدْخُلُ فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَدْخُلُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، لَا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا.
وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهَا، لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَ النَّوْعَانِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، لَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْمُبَادَلَةُ فِي الْآخَرِ، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا فِي الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا فِي الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ.
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَلَا، كَمَا إذَا اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْكُرِّ كَذَا هُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِي الْقِسْمَةِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا الثَّمَنِ شَرْعًا فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَوَّلِ ثَمَنٍ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ- وَهُوَ ثَمَنُ الْقِسْمَةِ- وَزِيَادَةُ شَيْءٍ بِأَنْ يَبِيعَ نِصْفَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَرِبْحُ دِرْهَمٍ مَثَلًا، كَمَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِدَارٍ، أَوْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِثَوْبٍ، فَأَمْكَنَ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً، أَوْ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ بِرِبْحِ دَهٍ يازده لَا يَجُوزُ؛ لِمَعْنًى عُرِفَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.